نشأة علوم اللغة العربية
لقد كان الصَّدرُ الأوَّلُ من الأمَّة الإسلامية أهلَ سليقةٍ عربيَّة، و أصحابَ مَلَكَةٍ لسانيَّة،«فكانَ اللِّسانُ العربيُّ عندَهم صحيحًا مَحْرُوسًا، لا يَتَدَاخَلُهُ الخَلل، ولا يَتَطرَّقُ إليه الزَّلَل، إلى أن فُتحت الأمصار، وخالطَ العربُ غيرَ جنسهم، من الرُّوم والفُرس والحَبَش والنَّبَط وغيرهم، من أنواع الأمم الذين فتح اللّه على المسلمين بلادَهم، فاختلطتِ الفرق، وامتزجت الألسُن، وتداخَلتِ اللغاتُ ونشأَ بينهم الأولاد، واقتضـى كلُّ ذلك أن يستمعَ بعضُهم من بعض، وأن يتفاهموا في كُلِّ ما يتَّصِل بهم، ولُغة التَّخاطب الوحيدة بينهم في كلِّ ما يُحيط بهم هي اللُّغةُ العربية، فكان لزامًا على غير العربيّ أن تكونَ لُغَته العربية، مهما عالَج في ذلك و عَانَى، كما كان لِزامًا على العربيِّ أن يَتَرفَّق بغير العربيِّ، ويتريَّث معه في التَّخاَطب ضَرُورَةَ التَّعاوُن بينَ الطَّرفين، فكُلٌّ منهما يسمعُ من الآخر، و بطول هذا الامتزاج تسـرَّب الضّعف إلى نَحيرَة و سليقَة العربيِّ، غيرَ أنَّ غير العربيِّ كان يَنزِعُ قَسْـرًا عنه إلى بني جِلدَته و إن طالَ لُبثُه بينَ ظهراني العرب.
تولَّدَ من هذا كُلِّه أنَّ اللُّغة العربية تسرَّبَ إليها اللَّحن، و وَهَنَت الملاحظة الدَّقيقة التي يمتازُ بها العرب، وهي اختلافُ المعاني طوعًا لاختلاف شكل آخر الكلمة، فإنَّ هذه الميزةَ كانت مَوْفُورةً لديهم و هم بعيدون عن مخالطة سواهم، من ذوي اللُّغات الأخرى، و طَفِقَ هذا اللَّحن و الاختلالُ يزدادُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا ما طالَ الزَّمن، وتفسَّحت رُقعة الإسلام(1).
فلمَّا أعضَلَ الدَّاء وعزَّ الدَّواء، ألهمَ اللّه عز وجل جماعة من أولِي المعارف والنُّهَى، وذوي البصائر والحِجَى، أن صرفوا إلى هذا الشأن كُلَّ عنَايَتِهم، و أولَوْهُ كُلَّ رِعايَتهم، فشَرَّعـوا فيه للناس مواردًا ومهَّدوا فيه لهم معاَهدًا؛ حراسةً لهذه اللغة المقدَّسة من الاختلال، و حفظا لهذا الدِّين من الضياَع.
و قد تضَافر العُلماء على هذا العمل الخطير الجليل، و تعاوَنوا عليه، و تواصلت جهودهم فيه، بل وتنافسوا فيه، إلى أن مَنَّ الله عز وجل، فتمَّ وضْعُ علومٍ كثيرةٍ لخدمةِ هذه اللُّغة، في فترة من الزَّمن وجيزة، وفي أوقاتٍ و ظروفٍ صعبةٍ عزيزة.
و هذه العلومُ هي الَّتي عُرفت فيما بعدُ بـ(عُلُوم اللُّغة العَربيَّة).
وممَّا تقدَّم نستنتجُ أنَّ سبَبَ نَشأَةِ هذه العلوم كان دينيًّا، وهو الحفاظُ على لِسانِ هذا الدِّين ووِعاءِهِ، وبالتَّالي الحفاظُ على القرآن العظيم، و السُّنّة النَّبوية الشَّريفة.
و لئِن كانَ مِنْ أسبابٍ أُخرى، فهي لا تعدو أن تكونَ عَرَضِيَّةً فرعيَّة، لم تَكن مقصودةً ابتداءً، أوأنَّها تَعُود لما ذكرنا، من ذلك:
- اعتزَازُ العرب بلُغَتِهِم، وأَنَفَتُهُم عليها من أن تشوبَها شائبُةُ اللَّحن، أو تلُوثَها لوْثَةُ العُجمَة(2)
- ضَرُورَة الشُّعوب المستَعربَة لتَعلُّم اللُّغة العربية، فكانوا بحاجةٍ لمن يَرسُمُ لَهم أوضاعَ العربيَّةِ في إعرابها وتصريفها و بيانها، حتَّى تتمثَّلها تمثُّلًا مستقيمًا، و تتقن النُّطق بأساليبها نُطقًا سليمًا، فَتَلْتَذَّ بتلاوةِ كتاب الله، وتَسعدَ بتدبُّره وفهمِهِ على أحسنِ وجهٍ(3).
- رُقِيُّ العقل العَرَبيِّ و نُمُوُّ طاقتِه الذِّهنيَّة نُموًّا أعدَّه للنُّهوض برصد الظَّواهر اللُّغويّة، و تسجيل الرسوم والقوانين تسجيلًا تطَّردُ فيه القواعد، و تنتظم فيه الأقيِسة(4).
بقي أن نشيرَ إلى أنَّ علوم العربيَّة لم تنشأ كُلُّها في وقت واحد، بل كان ظهورها مُتَدرِّجًا، ذلك أنَّ العلماء كانوا يُعالجون ما اختلَّ من ألسِنَة النَّاسِ كُلٌّ على حَسَبِ ظُهُورِه، فنَجِدُ مثلًا أنَّ النَّحو كان أسبقَ هذه العلوم ظُهورًا، لأنَّ اللَّحنَ في الإعراب كان أوَّلَ ما ظهرَ، يقولُ أبو الطَّيِّب اللُّغويِّ في كتابه (مراتب النَّحويِّين): «واعلمْ أنَّ أوَّل ما اختلَّ من كلام العرب فأَحوَجَ إلى التَّعلُّمِ الإعرابُ، لأنَّ اللَّحنَ ظهرَ في كلام الموالي والمُتَعَرِّبينَ من عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم ...» (5)، فصـرفَ العلماءُ جُهودَهم ووجَّهوا عِنايَتَهم لمعالجة هذه الظاهرة، حتى توصَّلوا إلى وضع علمٍ كَفَلَ لهم تقويمَ ما اختلَّ من الأَلْسُن، وردّها إلى جادَّة الصَّواب، وهكذا كُلَّما ظَهَر لحنٌ في شيءٍ من اللغة، قاموا بالتَّصدِّي له، وسارَعُوا إلى الحدِّ من غَلْوَائِه.
أبو يونس العجماوي
الهوامش:
1- نشأة النحو و تاريخ أشهر النحاة، محمد الطنطاوي، دار المنار، 1412هـ-1991م. ص6-بتصرُّف-.
2- وقد عدَّ د. شوقي ضيف رحمه الله هذا السَّبب قوميًّا عربيًّا، و فيه نظر؛ إذْ إنَّ كثيرًا من العُلماء الذين قاموا بواجب الذَّب عن العربية وخدمتها، هم ذَوُوا أصول غير عربيَّة، و كفى بابنِ فارس رحمه الله (ت395هـ) مثالًا على هذا، فهو من أصول فارسية، وقد كتب في فضل اللغة العربية و تمجيدها ما هو معروفٌ مشهورٌ، و هل ذلك لأنها لُغةُ العرب؟؟، أبدًا؛ بل لأنها لغةُ الإسلام، و لُغة القرآن، فبان أن هذا السَّبب ديني كذلك. انظر: المدارس النحوية، شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، 1968م، ص 12.
3- وقد اعتبر شوقي ضيف رحمه الله هذا السَّبب اجتماعيًّا؛ من باب أنهم احتاجوا إلى العربية ليتعاملوا بها في حياتهم مع العرب المسلمين الذين خالطوهم، و لكنَّ الأمرَ -في ظَنِّنا- أكبرُ من ذلك؛ إذْ أنَّهم شَعَروا بحاجَةٍ ماسَّة لتعلُّم هذه اللُّغة لأنَّها لُغة دينهم و لُغةُ كتابهم، والَّذي هم مُتَعبَّدون بتلاوته و تدبُّره، ناهيك عن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، و بقيَّة تعاليم الإسلام، فصار هذا السَّبب دينيًّا أكثر منه اجتماعيًّا. انظر: المصدر السابق، نفس الصفحة.
4- وهذا أيضًا مرَدُّه إلى الدِّين، إذ إنَّ الاسلام هو الذي هيَّأ تلك العقول و نمَّاها، يقول ابن فارس رحمه الله:«كَانَتْ العربُ فِي جاهليتها عَلَى إرثٍ من إرث آبائهم فِي لُغاتهم وآدابهم ونَسَائِكِهِم وقَرابينهم، فلما جاءَ الله جلّ ثناؤه بالإسلام حالت أحوالٌ، ونُسِخَت دِيانات، وأبطلت أمورٌ، ونُقِلت من اللغة ألفاظ من مواضعَ إِلَى مواضع أخَر، بزيادات زيدت، وشرائع شُرعت، وشرائط شُرطت، فَعفَّى الآخرُ الأوّلَ، وشُغِل القوم بعد المُغاوَرات والتّجارات وتَطَلُّب الأرباح والكدْح للمعاش فِي رحلة الشتاء والصَّيف، وبعد الإغرام بالصَّيْد والمُعاقرة والمياسرة، بتلاوة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بَيْنَ يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد، وبالتَّفقُّه فِي دين الله عز وجل ، وحفظ سنن رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلّم، مع اجتهادهم فِي مجاهدة أعداء الإسلام، فصار الَّذِي نشأ عَلَيْهِ آباؤهم ونشأوا عَلَيْهِ كَأَن لَمْ يكن وحتى تكلَّموا فِي دقائق الفقه وغوامض أبواب المواريث وغيرها من علم الشريعة وتأويل الوحي بما دُوّن وحُفِظ حَتَّى الآن...» إلى أن قال:« فسبحان من نقل أولئك فِي الزمن القريب بتوفيقه، عمّا ألفوه ونشأوا عَلَيْهِ وغُذُّوا بِهِ، إلى مثل هَذَا الَّذِي ذكرناه»اهـ . الصاحبي في فقه اللُّغة، أبو الحسن أحمد بن فارس، تحقيق السيد أحمد صقر، عيسى البابي الحلبي و شركاؤه، القاهرة، 1977م، ص 78-83.
5- مراتب النحويين، عبد الواحد بن علي أبو الطيب اللغوي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصـرية، صيدا-بيروت، ط1، 1423هـ-2002م. ص 19.
تعليقات
إرسال تعليق