صلاة العيدين في المصلى هي السنة


بمناسة عيد الفطر أحببت أن أنشر شيئًا من روائع البحوث السُّنية التي كُتِبت في هذا الشأن، وقد وقع اختياري على البحث القيِّم الموسوم بـ: "صلاة العيدين في المصلى هي السنة" للشيخ العلامة المحدث المجدِّد محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله تعالى-، لما اتَّسم به البحث من تجديد وإحياءٍ للسنة النبوية بناءً على أسس علمية راسخة، ونظر فقهي دقيق.


هذا وقد قمت بتنسيق البحث ليتلاءم مع طبيعة النشر على المدونة، كما ذيلت هذا البحث، تتميما للفائدة بروابط لتحميل الرسالة الأصلية، لمن شاء الاطلاع عليها في صورتها الأصلية.
لن أطيل أكثر في التَّقدمة، لأترككم مع البحث وخباياه، والله نسأل أن يوفق الجميع لما فيه خيري الدنيا والآخرة.
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين
الحمد لله وحده وصلاته وسلامه على نبينا محمد وآله وصحبه وعلى من تمسك بهديه واستقام على طريقته إلى يوم الدين(1).أما بعد:
فهذه رسالتنا اليوم وموضوعها إثبات أن:
صلاة العيدين في المصلى خارج البلد هي السنة
وقد كنت فكرت في أن اجعلها رسالة جامعة لأحكام صلاة العيدين على نحو رسالة "صلاة التراويح " ولكن الوقت أداركني حيث لم يبق لعيد الفطر(2) إلا بضعة أيام ولذلك فإني اضطررت لحصرها في هذا الموضوع الذي ذكرت راجيا من الله تبارك وتعالى أن ييسر لي قريبا إخراج الرسالة الجامعة ونشرها على الناس آملا أن يتقبلوا رسائلنا بقبول حسن عسى أن أحظى منهم بدعوة صالحة في الغيب تنفعني إن شاء الله {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} سورة الشعراء: الآيتان 88 – 89.
فاعلم أيها القارئ الكريم: أن أولئك المؤلفين كانوا سودوا في رسالتهم "الإصابة" صفحتين كبيرتين "14 - 15" "حول موضوع صلاة العيد في المصلى" تناقضوا فيها تناقضا مخزيا يتبين القارئ منه {مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} وقد كانوا افتروا علينا في رسالتهم تلك فزعموا أننا نقول: إن صلاة العيد في المساجد لا تصح!
فقد قالوا: "والسبب في اختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاتها في المصلى لعدم "كذا" توفر الأسباب في المدينة المنورة حيث لا يوجد في المدينة سوى مسجد واحد".
وهذا جهل بالغ فالمساجد التي كانت في المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم كثيرة معروفة أشهرها "مسجد قباء" و "مسجد القبلتين" و "مسجد الفتح". وفي هذه المساجد آثار صحيحة كثيرة في كتب السنة وذكر الحافظ في "الفتح" "1 / 445"، مساجد أخرى بأسمائها فليرجع إليه من شاء.
وقصدهم من هذه الدعوى الباطلة التوسل إلى تعطيل سنة صلاة العيد في المصلى باختلاق هذه العلة الكاذبة وهي: "أن المدينة لم يكن فيها سوى مسجده صلى الله عليه وسلم". وهو بزعمهم لا يتسع للمصلين صلاة العيد!
فها نحن قد أثبتنا بطلان هذه العلة ببطلان الدعوى من أصلها وحينئذ نقول: لو فرضنا أن المسجد النبوي كان لا يتسع لهم فكان يمكنهم أن يصلوا في تلك المساجد الكثيرة كما يفعل الناس اليوم فتركهم الصلاة فيها إلى الصلاة في المصلى دليل واضح على أن السنة الصلاة فيه دون المساجد تثبت المراد وبطل ما قصدوا إليه من التعطيل.
ثم قالوا: "ولما كثر المسلمون حتى تعذر على المسلمين اجتماعهم في المصلى خصوصا في المدن الكبرى كدمشق لكثرة المصلين فصاروا يجتمعون في المساجد حسب الحاجة"!
قلت: انظر أيها القارئ الكريم إلى هذا المنطق المعكوس حيث جعلوا اجتماع المسلمين في المصلى متعذرا مع أنه سهل متيسر والدليل عليه أنه جرى العمل به في معظم الأمصار كما قال الإمام النووي في "شرح مسلم" وسيأتي نص كلامه في "دلالة الأحاديث على أن السنة الصلاة في المصلى"
وإلى اليوم لا تزال هذه السنة قائمة بفضل الله في كثير من البلاد الإسلامية كدمشق والأردن ومصر والجزائر والباكستان وغيرها.
ثم أي حاجة في تفريق جماعة المسلمين في هذه المساجد الكثيرة الكبيرة منها والصغيرة المنبثة في كل مكان والتي يقرب بعضها من بعض أحيانا إلى درجة أنه لا يوجد بينها إلا مسافة خمسين خطوة أو أقل!
ولو أن هؤلاء المؤلفين قيدوا كلامهم بالصلاة في المسجد الواحد الأكبر لكان لهم سلف في هذا القول كما سيأتي عن الإمام الشافعي رحمة الله.
ولكنهم لا يتحرجون من أن يقولوا ما لم يقله مسلم قبلهم البتة في سبيل محاربة السنة وإلا فالمسلمون متفقون جميعا على أن الصلاة في المصلى هو السنة إذا لم يسعهم المسجد وجمهورهم لم يقبلوا هذا الشرط بل قالوا: ولو وسعهم المسجد فقد خالفوا بجهلهم
جميع المسلين سلفهم وخلفهم والله تعالى يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} سورة النساء: الآية 115.فالسنة السنة أيها الناس!
ثم قالوا: " ... حسب الحاجة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى في المسجد للعذر " ثم ذكروا في التعليق حديث أبي هريرة في صلاته صلى الله عليه وسلم في المسجد لعذر المطر.
والجواب أن حديث أبي هريرة - لو صح - حجة لنا لأن مفهومه أنه لولا عذر المطر لصلى في المصلى: وهذا لا يخالف فيه مسلم غيركم فإن كلامكم السابق ينصب كله على القول بأن الصلاة في المصلى غير مشروعة الآن لأنه متعذر بزعمكم وقد رددنا عليكم فعاد الحديث حجة عليكم لا لكم وهذا كله يقال لو صح الحديث وهو غير صحيح بل إسناده ضعيف كما سيأتي بيانه.
وسائر كلامكم هراء لا يستحق جوابا إلا قولهم بعد أن ساقوا الحديث الأول عن أبي سعيد الآتي وحديث أبي هريرة:
فيستفاد من الحديثين أنها تصح بالمصلى وفي المسجد وأن كلا فيه ثواب.
كما أنه يستفاد من الحديث الأول أن الأفضل صلاتها في الصحراء لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
قلت: فانظر إليهم أيها القارئ الكريم كيف عادوا إلى الصواب الذي ندعوا إليه وبذلك نقضوا معنا كلامهم السابق ولكن أتظن أنهم يستقرون عليه؟ لا فقد عادوا من حيث بدؤوا فقالوا: بعد أن نقلوا عن الحافظ ابن حجر كلام الإمام الشافعي الآتي قالوا:
"فمن أمعن النظر فيما تقدم مع حديث البخاري(3) "عن أم عطية: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور فأما الحيض فيعتزلن الصلاة".
وفي لفظ "المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين".
علم أن السبب في مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة في المصلى "هو: أما كون مسجده صلى الله عليه وسلم لا يتسع للرجال والنساء في ذلك اليومين أو أن المسجد لا يصلح لحضور الحيض".
أقول: لقد تأملنا هذا الكلام كله فوجدناه لا طائل تحته كسائر كلامهم!
فإننا لو سلمنا أن مسجده صلى الله عليه وسلم كان لا يتسع للرجال والنساء فإن الأمر كذلك في مساجدنا لا يتسع واحد منها لجميع المصلين فحينئذ يبقى مشروعية الخروج إلى المصلى ساري المفعول وهذا هو المطلوب.
ثم إذا كان المسجد لا يصلح عندهم لحضور الحيض فهو اعتراف منهم بأن المصلى يصلح لحضورهن فإذا التزموا الصلاة في المسجد فقد منعوهن من أن "يشهدن الخير ودعوة المسلمين".
وهذا خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي عزوه للبخاري فالحديث من أدلتنا على أن الصلاة ينبغي أن تكون في المصلى لا في المسجد لأن المسجد مهما كبر لا يمكن أن يتسع لحضور جميع الجنسين فيه باعترافهم؟
ومن حججنا عليهم قولهم: "وكانت تخرج النساء للمصلى حتى الحيض تكبر بتكبيرهم".
فإننا نسألهم كيف يمكن لكم تحقيق هذه السنة في المساجد؟ لا سبيل لكم إلى ذلك إلا بأن تمنعوهن من الحضور مطلقا وهذا خلاف أمره صلى الله عليه وسلم كما سبق. وأما أن تأمروهن بالحضور خارج المسجد ومن وراء أسواره وحيطانه فكيف يمكنهن والحالة هذه أن يكبرن بتكبيرهن؟! فتأمل أيها الأخ المسلم ما يفعله الجهل بصاحبه واعتبر.
" تنبيه " لقد تبين مما نقلناه عن أولئك المؤلفين أنهم يقولون بمشروعية خروج النساء إلى المصلى ولو كن شابات لأنهن "العواتق" فاحفظ هذا فأنه ربما يأتي يوم يبادر هؤلاء المؤلفين إلى إنكار ما اعترفوا به إذا رأوا أنصار السنة قد عملوا بذلك حسدا وبغيا من عند أنفسهم!
هذا ونحن وإن كنا نحض النساء على حضور جماعة المسلمين تحقيقا لأمر سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فلا يفوتنا أن نلفت نظرهن ونظر المسؤولين عنهن إلى وجوب تقيدهن بالحجاب الشرعي الذي لا يبيح لهن أن يبدين من بدنهن إلا الوجه والكفين على ما فصلته في كتابي " حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة " والله تبارك وتعالى يقول: {يا يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} . [سورة الأحزاب: الآية 59] . مع تصريحنا هناك بأن الأفضل لهن أن يسترنهما أيضا خلافا لما نسبه إلي بعض المؤلفين الذين لا يخشون رب العالمين.
وقد يستغرب البعض القول بمشروعية خروج النساء إلى المصلى لصلاة العيدين فليعلم: أن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك وحسبنا الآن حديث أم عطية المتقدم فإنه ليس دليلا على المشروعية فقط بل وعلى وجوب ذلك عليهن لأمره صلى الله عليه وسلم به والأصل في الأمر الوجوب ويؤيده ما روى ابن أبي شيبة في "المصنف"، "2 / 184" عن أبي بكر الصديق أنه قال: حق على كل ذات نطاق "شبه إزار فيه تكة" الخروج إلى العيدين" وسنده صحيح. فهل يقول بهذا من زعم الانتصار للخلفاء الراشدين وقد قال به أولهم كما تراه مخرجا مصححا؟ ذلك ما لا نظنه بهم فليخطؤوا ظننا هذا - وهو الأحب إلينا - وإلا فقد تبين للناس غرضهم من انتصارهم المزعوم.
والقول بالوجوب هو الذي استظهره الصنعاني في "سبل السلام" والشوكاني وصديق خان وهو ظاهر كلام ابن حزم وكأن ابن تيمية قد مال إليه في "اختياراته" والله أعلم. الأولى(4) "ص 9 – 10" خلاصتها أننا نقول: إن السنة صلاة العيد في المصلى مع جوازها في المساجد ووعدت هناك بتحقيق القول في هذه الرسالة.
فقد جاء أوان الوفاء بذلك فأقول:
مواظبته صلى الله عليه وسلم على صلاة العيد في المصلى والأحاديث في ذلك
ذكر غير واحد من الحفاظ المحققين "أن هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة العيدين كان فعلهما في المصلى دائما"(5).
ويؤيد هذا الأحاديث الكثيرة التي وردت في ذلك في الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها من طرق كثيرة جدا فلا بد من ذكر شيء منها في هذه العجالة حتى يتبين القارئ الكريم صواب ما ذكرته فأقول:
· الحديث الأول:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى(6), فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه(7) أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك.... ".
رواه البخاري "2 / 259 - 260" ومسلم "3 / 20" والنسائي "1 / 234" والمحاملي في "كتاب العيدين" "ج 2 رقم 86 من نسختي بخطي" وأبو نعيم في " مستخرجه " "2 / 10 / 2" والبيهقي في سننه "3 / 280"
· الحديث الثاني:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان صلى الله عليه وسلم يغدو إلى المصلى في يوم العيد والعنزة(8) تحمل بين يديه فإذا بلغ المصلى نصبت بين يديه فيصلي إليها وذلك أن المصلى كان فضاء ليس فيه شيء يستتر به".
رواه البخاري "1/354" ومسلم "2 ظ 55" وأبو داود "1/109" والنسائي "1/232" وابن ماجه "1 / 392" وأحمد "رقم 6296" واللفظ لابن ماجه وهو أتم وسنده صحيح وكذلك رواه المحاملي في "2 رقم 26 - 36" وأبو القاسم الشحامي في " تحفة العيد " "رقم 14 - 16 من نسختي بخط ابني" والبيهقي "3 / 284 - 285".
· الحديث الثالث:
عن البراء بن عازب قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أضحى إلى البقيع(9) "وفي رواية: المصلى" فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه وقال: "إن أول نسكنا(10) في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك. فقد وافق سنتنا ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو شيء عجله لأهله ليس من النسك في شيء".
رواه البخاري "2 / 372" والسياق له وأحمد "4 / 282" والمحاملي "2 رقم 90، 96" والرواية الأخرى لهما بسند حسن.
· الحديث الرابع:
عن ابن عباس قيل له: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم ولولا مكاني من الصغر ما شهدته حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت(11) فصلى ثم خطب ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة(12) فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال ثم انطلق هو وبلال إلى بيته.
أخرجه البخاري "2 / 373" والسياق له ومسلم "2 / 18 - 19" وابن أبي شيبه "2 / 3 / 2" والمحاملي "رقم 38، 39" والفريابي "رقم 85، 93" وأبو نعيم في " مستخرجه " "2 / 8 / 2 - 9 / 1" وزاد مسلم في روايته عن ابن جريج: قلت: لعطاء أحقا على الإمام الآن أن يأتي النساء حين يفرغ فيذكرهن؟ قال: إي لعمري إن ذلك لحق عليهم وما لهم لا يفعلون ذلك؟
دلالة الأحاديث على أن السنة الصلاة في المصلى
إذا عرفت هذه الأحاديث فهي حجة قاطعة على أن السنة في صلاة العيدين أن تؤدى في المصلى وبذلك قال جمهور العلماء ففي "شرح السنة" للإمام البغوي:
السنة أن يخرج الإمام لصلاة العيدين إلا من عذر فيصلى في المسجد(13) أي: مسجد داخل البلد.
وقال الإمام محيي الدين النووي في "شرح مسلم" عند الكلام على الحديث الأول:
هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى وأنه أفضل من فعلها في المسجد وعلى هذا عمل الناس في معظم الأمصار وأما أهل مكة فلا يصلونها إلا في المسجد من الزمن الأول ولأصحابنا وجهان:
أحدهما: الصحراء أفضل لهذا الحديث.
والثاني وهو الأصح عند أكثرهم: المسجد أفضل إلا أن يضيق.
قالوا: وإنما صلى أهل مكة في المسجد لسعته وإنما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى لضيق المسجد فدل على أن المسجد أفضل إذا تسع(14).
رد تعليل الصلاة في المصلى بعلة ضيق المسجد
كذا قالوا وفيه نظر بين فإنه لو كان الأمر كما قالوا لما واظب النبي صلى الله عليه وسلم على أدائها في المصلى لأنه لا يواظب إلا على الأفضل.
والقول: بأنه إنما فعل ذلك لضيق المسجد دعوى لا دليل عليها ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى الجمعة في المسجد وكان الناس يأتونه من عوالي المدينة وغيرها فيصلى بهم الجمعة فيه ولا يظهر أي فرق بين عدد الذين يحضرون الجمعة من الصحابة وبين الذين يحضرون العيدين حتى يقال: كان يتسع لأولئك ولا يتسع لهؤلاء ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل وما أخاله يستطيعه.
ويؤيد ما ذكرنا أنه لو كانت صلاة العيدين في المسجد أفضل منه في المصلى وكان المسجد ضيقا لبادر صلى الله عليه وسلم إلى توسيعه كما فعل بعض الخلفاء من بعده فهو صلى الله عليه وسلم أولى بتوسيعه منهم لو كان لا يتسع لها فتركه صلى الله عليه وسلم التوسيع لا يمكن تصوره مع التسليم بالأفضلية المذكورة اللهم إلا أن يدعي أحد أنه كان ثمة مانع وما أظن عالما يجرأ على هذه الدعوى ولئن فعل ذلك أحد فإنا نبادره بقول الله تبارك وتعالى{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[سورة البقرة: الآية 111].
ومن العجيب أن الشافعية: جعلوا استمرار الرسول صلى الله عليه وسلم على أداء صلاة الجمعة في المسجد الواحد دليلا على عدم جواز تعدد الجمعة في بلد واحد ولم يجعلوا مواظبته صلى الله عليه وسلم على أدائه لصلاة العيدين في المصلى دليلا على أفضلية أدائها في المصلى دون المسجد ودليل المسألتين واحد كما ترى؟
وهذا كله يؤيد الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما الإمام النووي رحمه الله في مذهب السادة الشافعية.
على أن الخلاف بينهما شكلي وغير عملي في مثل مدينة دمشق ونحوها من المدن الكبيرة إذ أن الوجه الثاني صرح بأن أفضلية الصلاة في المسجد مشروطة بأن يتسع لجميع المصلين ومثل هذا المسجد لا وجود له فيتفق الوجهان حينئذ كما هو مذهب جماهير العلماء على أن الأفضل الصلاة في المصلى وقد نص الإمام الشافعي - رحمه الله - على كراهة الصلاة في المسجد في حال ضيقه كما يأتي.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "الفتح" "2 / 450 - السلفية" تحت الحديث الأول:
واستدل على استحباب الخروج إلى الصحراء لصلاة العيد وأن ذلك أفضل من صلاتها في المسجد لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك مع فضل مسجده.
وقال الشافعي في "الأم ": بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة وكذا من بعده إلا من عذر مطر أو نحوه وكذلك عامة أهل البلدان إلا أهل مكة.
ثم أشار إلى أن سبب ذلك سعة المسجد وضيق أطراف مكة. قال: فلو عمر بلد فكان مسجد أهله يسعه في الأعياد لم أر أن يخرجوا منه فإن كان لا يسعهم كرهت الصلاة فيه ولا إعادة(15).
ومقتضى هذا أن العلة تدور على الضيق والسعة لا لذات الخروج إلى الصحراء لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع فإذا حصل في المسجد مع أفضليته كان أولى.
وقد تعقبه الإمام الشوكاني بقوله "3 / 248": وفيه أن كون العلة الضيق والسعة مجرد تخمين لا ينهض للاعتذار عن التأسي به صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى الجبانة(16) بعد الاعتراف بمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وأما الاستدلال على أن ذلك هو العلة بفعل الصلاة في مسجد مكة فيجاب عنه باحتمال أن يكون ترك الخروج إلى الجبانة لضيق أطراف مكة لا للسعة في مسجدها.
قلت: وهذا الاحتمال الذي ذكره الإمام الشوكاني أشار إليه الإمام الشافعي نفسه كما قال الحافظ فيما نقلته عنه آنفا ونص كلام الإمام الشافعي في " الأم " "1 / 207": وأنما قلت هذا: لأنه قد كان وليس لهم هذه السعة في أطراف البيوت بمكة سعة كبيرة.
فهذا يؤيد ما ذهب إليه الشوكاني - رحمه الله - أن تعليل تركه صلى الله عليه وسلم الصلاة في المسجد بضيقه مجرد تخمين فهو بالرفض قمين!
وقد يحتج لتلك العلة بما رواه البيهقي في " السنن الكبرى " "3 / 310" من طريق محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن عن عثمان بن عبد الرحمن التيمي قال: مطرنا في أمارة أبان بن عثمان على المدينة مطرا شديدا ليلة الفطر فجمع الناس في المسجد فلم يخرج إلى المصلى الذي يصلى فيه الفطر والأضحى.
ثم قال لعبد الله بن عامر بن ربيعة. قم فأخبر الناس ما أخبرتني فقال عبد الله بن عامر: إن الناس مطروا على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فامتنع الناس من المصلى فجمع عمر الناس في المسجد فصلى بهم. ثم قام على المنبر فقال: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج بالناس إلى المصلى يصلي بهم لأنه أرفق بهم وأوسع عليهم وأن المسجد كان لا يسعهم قال: فإذا كان هذا المطر فالمسجد أرفق.
والجواب: إن هذه الرواية ضعيفة جدا لأن محمد بن عبد العزيز هذا وهو محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف القاضي. قال البخاري: "منكر الحديث" وقال النسائي: "متروك" وقد أخرجها الشافعي في "الأم" "1 / 207" من طريق أخرى عن أبان بدون الحديث المرفوع والتعليل الموقوف على أن سنده ضعيف جدا أيضا لأنه من رواية إبراهيم شيخ الشافعي وهو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي
وهو كذاب وقال مالك لم يكن ثقة في الحديث ولا في دينه ولذلك قال الحافظ فيه في "التقريب":"متروك".
فثبت مما تقدم بطلان التعليل بضيق المسجد وترجح أقوال العلماء الذين جزموا بأن الصلاة في المصلى هي السنة وأنه مشروع في كل زمان وبلد إلا لضرورة ولا أعلم أحدا من العلماء المستقلين - الذين يعتد بهم - خالف في ذلك فقال ابن حزم في "المحلى" "5 / 81": "وسنة صلاة العيدين: أن يبرز أهل كل قرية أو مدينة إلى فضاء واسع بحضرة منازلهم ضحوة أثر إبيضاض الشمس وحين ابتداء جواز التطوع".
ثم قال "ص 86": "وإن كان عليهم مشقة في البروز إلى المصلى صلوا جماعة في الجامع" ثم قال "ص 87":
وقد روينا عن عمر وعثمان رضي الله عنهما: أنهما صليا العيد بالناس في المسجد لمطر وقع يوم العيد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبرز إلى المصلى لصلاة العيدين فهذا أفضل وغيره يجزيء لأنه فعل لا أمر. وبالله التوفيق.
وللأستاذ الفاضل الشيخ أحمد محمد شاكر(17) المحدث المشهور بحث طيب نافع في صلاة العيد في المصلى وفي خروج النساء إليها رأيت أن أنقله عنه لما فيه من الفوائد قال رحمه الله في تعليقه على الترمذي "2 / 421 - 424" بعد أن أشار إلى الحديث الأول. وذكر قول ابن جريج لعطاء المتقدم في الحديث الرابع: "أحقا على الإمام أن يأتي النساء حين يفرغ فيذكرهن؟ قال: أي العمري ... " قال الشيخ أحمد:
وقد تضافرت أقوال العلماء على ذلك.
فقال العلامة العيني الحنفي في "شرح البخاري" وهو يستنبط من حديث أبي سعيد "ج 6 ص 280 - 281" قال: "وفيه البروز إلى المصلى والخروج إليه ولا يصلي في المسجد إلا عن ضرورة".
وروى ابن زياد عن مالك قال: "السنة الخروج إلى الجبانة إلا لأهل مكة ففي المسجد".
وفي الفتاوى الهندية "ج 1 ص 118": الخروج إلى الجبانة في صلاة العيد سنة وإن كان يسعهم المسجد الجامع على هذا المشايخ وهو الصحيح.
وفي " المدونة " المروية عن مالك "ج 1 ص 171". قال مالك: "لا يصلي في العيدين في موضعين ولا يصلون في مسجدهم ولكن يخرجون كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم. ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى المصلى ثم استن بذلك أهل الأمصار".
وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني "ج 2 ص 229 - 230": السنة أن يصلي العيد في المصلى أمر بذلك علي رضي الله عنه واستحسنه الأوزاعي وأصحاب الرأي وهو قول ابن المنذر وحكي عن الشافعي: إن كان مسجد البلد واسعا فالصلاة فيه أولى لأنه خير البقاع وأطهرها ولذلك يصلي أهل مكة في المسجد الحرام.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى ويدع مسجده وكذلك الخلفاء بعده ولا يترك النبي صلى الله عليه وسلم الأفضل مع قربه ويتكلف فعل الناقص مع بعده ولا يشرع لأمته ترك الفضائل ولأننا أمرنا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به ولا يجوز أن يكون المأمور به هو الناقص والمنهي عنه هو الكامل ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى العيد بمسجده إلا من عذر ولأن هذا إجماع المسلمين فإن الناس في كل عصر ومصر يخرجون إلى المصلى مع سعة المسجد وضيقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في المصلى مع شرف مسجده.
وأقول: أن قول ابن قدامة " ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى العيد بمسجده إلا من عذر يشير به إلى حديث أبي هريرة في المستدرك للحاكم "ج 1 ص 295": " أنهم أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد " وصححه هو والذهبي(18).
وقال الإمام الشافعي في كتاب الإمام "ج 1 ص 207": بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة وكذلك من كان بعده وعامة أهل البلدان إلا مكة فإنه لم يبلغنا أن أحدا من السلف صلى بهم عيدا إلا في مسجدهم وأحسب ذلك - والله تعالى أعلم - لأن المسجد الحرام خير بقاع الدنيا فلم يحبوا أن يكون لهم صلاة إلا فيه ما أمكنهم وأنما قلت هذا لأنه قد كان وليست لهم هذه السعة في أطراف البيوت بمكة سعة كبيرة ولم أعلمهم صلوا عيدا قط ولا استسقاء إلا فيه فإن عمر بلد فكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أر أنهم يخرجون منه وإن خرجوا فلا بأس.
ولو أنه كان لا يسعهم فصلى بهم إمام فيه كرهت له ذلك ولا إعادة عليهم. وإذا كان العذر من مطر أو غيره أمرته بأن يصلي في المسجد ولا يخرج إلى الصحراء.
وقال العلامة ابن الحاج في "المدخل" "283": والسنة الماضية في صلاة العيدين أن تكون في المصلى لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"(19).
ثم هو مع هذه الفضيلة العظيمة خرج صلى الله عليه وسلم إلى المصلى وتركه فهذا دليل واضح على تأكد أمر الخروج إلى المصلى لصلاة العيدين فهي السنة وصلاتهما في المسجد على مذهب مالك رحمه الله بدعة إلا أن تكون ثم ضرورة داعية إلى ذلك فليس ببدعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها ولا أحد من الخلفاء الراشدين بعده ولأنه عليه السلام أمر النساء أن يخرجن إلى صلاة العيدين وأمر الحيض وربات الخدور بالخروج إليهما فقالت إحداهن: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب فقال عليه الصلاة والسلام: "تعيرها أختها من جلبابها لتشهد الخير ودعوة المسلمين". فلما أن شرع عليه الصلاة والسلام لهن الخروج شرع الصلاة في البراح لإظهار شعيرة الإسلام.
فالسنة النبوية التي وردت في الأحاديث الصحيحة دلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيدين في الصحراء في خارج البلد. وقد استمر العمل على ذلك في الصدر الأول ولم يكونوا يصلون العيد في المساجد إلا إذا كانت ضرورة من مطر ونحوه وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم من الأئمة رضوان الله عليهم.
لا أعلم أن أحدا خالف ذلك إلا قول الشافعي رضي الله عنه في اختيار الصلاة في المسجد إذا كان يسع أهل البلد ومع هذا فإنه لم ير بأسا بالصلاة في الصحراء وان وسعهم المسجد وقد صرح رضي الله عنه بأنه يكره صلاة العيدين في المسجد إذا كان لا يسع أهل البلد.
فهذه الأحاديث الصحيحة وغيرها ثم استمرار
العمل في الصدر الأول ثم أقوال العلماء كل أولئك يدل على أن صلاة العيدين الآن في المساجد: بدعة حتى قول الشافعي لأنه لا يوجد مسجد واحد في بلدنا يسع أهل البلد الذي هو فيه .
حكمة الصلاة في المصلى
ثم إن هذه السنة - سنة الصلاة في الصحراء - لها حكمة عظيمة بالغة: أن يكون للمسلمين يومان في السنة يجتمع فيها أهل كل بلدة رجالا ونساء وصبيانا. يتوجهون إلى الله بقلوبهم تجمعهم كلمة واحدة ويصلون خلف إمام واحد يكبرون ويهللون ويدعون الله مخلصين كأنهم على قلب رجل واحد فرحين مستبشرين بنعمة الله عليهم فيكون العيد عندهم عيدا.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروج النساء لصلاة العيد مع الناس ولم يستثن منهن أحدا حتى أنه لم يرخص لمن لم يكن عندها ما تلبس في خروجها بل أمر أن تستعير ثوبا من غيرها وحتى أنه أمر من كان عندهن عذر يمنعهن الصلاة بالخروج إلى المصلى "ليشهدن الخير ودعوة المسلمين".
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ثم خلفاءه من بعده والأمراء النائبون عنهم في البلاد يصلون بالناس العيد ثم يخطبونهم بما يعظونهم به ويعلمونهم مما ينفعهم في دينهم ودنياهم ويأمرهم بالصدقة في ذلك الجمع فيعطف الغني على الفقير ويفرح الفقير بما يؤتيه الله من فضله في هذا الحفل المبارك الذي تتنزل عليه الرحمة والرضوان.
فعسى أن يستجيب المسلمون لاتباع سنة نبيهم ولإحياء شعائر دينهم الذي هو معقد عزمهم وفلاحهم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}سورة الأنفال: الآية 24.
وقال الشيخ ولي الله الدهلوي في "حجة الله البالغة" تحت عنوان: "العيدان" "2؟ 30 - 31": الأصل فيهما أن كل قوم لهم يوم يجتمعون فيه ويخرجون من بلادهم بزينتهم وتلك عادة لا ينفك عنها أحد من طوائف العرب والعجم. وقد صلى صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: "قد أبدلكم الله بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر"(20). قيل: هما "النيروز" و "المهرجان".
وإنما بدلا لأنه ما من عيد في الناس إلا وسبب وجوده تنويه بشعائر دين أو موافقة أئمة مذهب أو شيء مما يضاهي ذلك فخشي النبي صلى الله عليه وسلم إن تركهم وعادتهم أن يكون هناك تنويه بشعائر الجاهلية أو ترويج لسنة أسلافها فأبدلهما بيومين فيهما تنويه بشعائر الملة الحنيفية وضم مع التجمل فيهما ذكر الله وأبوابا من الطاعة ولئلا يكون اجتماع المسلمين بمحض اللعب ولئلا يخلو اجتماع منهم من إعلاء كلمة الله.
أحدهما: يوم فطر صيامهم وأداء نوع من زكاتهم. فاجتمع الفرح "الطبيعي" من قبل تفرقهم عما يشق عليهم وأخذ الفقير الصدقات.
و"العقلي" من قبل الابتهاج بما انعم الله عليهم من توفيق أداء ما افترض عليهم وأسبل عليهم من إبقاء رؤوس الأهل والولد إلى سنة أخرى.
والثاني: يوم ذبح إبراهيم ولده إسماعيل عليهما السلام وإنعام الله عليهما بأن فداه بذبح عظيم إذ فيه تذكر حال أئمة الملة الحنيفية والاعتبار بهم في بذل المهج والأموال في طاعة الله وقوة الصبر وفيه تشبه بالحاج وتنويه بهم وشوق لما هم فيه ولذلك سن التكبير وهو قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}[سورة البقرة: الآية 185] . [وسورة الحج: الآية 37] .
يعني شكرا لما وفقكم للصيام ولذلك سن الأضحية والجهر بالتكبير أيام منى واستحب ترك الحلق لمن قصد التضحية(21) وسن الصلاة والخطبة لئلا يكون شيء من اجتماع بغير ذكر الله وتنويه بشعائر الدين.
وضم معه مقصدا آخر من مقاصد الشريعة وهو: أن كل أمة لا بد لها من عرضة ويجتمع فيها أهلها لتظهر شوكتهم وتعلم كثرتهم ولذلك استحب خروج الجميع حتى الصبيان والنساء وذوات الخدور والحيض - ويعتزلن المصلى ويشهدن دعوة المسلمين.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يخالف في الطريق ذهابا وإيابا ليطلع أهل كلتا الطريقين على شوكة المسلمين ولما كان أصل العيد الزينة استحب حسن اللباس والتقليس(22) ومخالفة الطريق والخروج إلى المصلى.
شبه وجوابها
علمت مما سبق بيانه: أن صلاة العيدين في المصلى هي السنة وأنه أمر متفق عليه بين الأئمة من الوجهة العلمية وأن في أدائها في المصلى فوائد وحكما لا يتحقق أكثرها في أدائها في المساجد أو المسجد ولذلك ينبغي على المسلمين أن يرجعوا إلى سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ويشاركون الذين بادروا إلى إحياء هذه السنة في هذه الديار فإن يد الله على الجماعة جماعة السنة لا الجماعة المخالفة لها!
ولا يليق بعاقل أن يقول: إن في إحياء هذه السنة تفريقا لجماعة المسلمين وأنهم إذا كانوا يصلون في المساجد في جماعات متعددة فإن في إقامتها في المصلى خروجا عنهم وإحداث جماعة جديدة نحن في غنى عنها وفي حاجة إلى تقليل تلك الجماعات لا تكثيرها فإننا نقول:
إن هذا القول لا يليق أن يقوله عاقل مسلم لأنه يحمل في طيه ما لا يتصور أن يقصده مؤمن لأن مفاده أن تطبيق السنة التي قال بها جميع الأئمة على ما فصلنا سبب لتفريق المسلمين وتمزيق جماعتهم وتصور هذا كاف وحده لإبطال هذا القول. بل الحقيقة التي ندين الله بها: أن لا سبيل إلى جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم إلا بالرجوع إلى السنة وخاصة العملية منها التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته وفارق عليها أمته وخلفهم عليها من بعده. وإن شئت مثالا قريبا على ذلك فخذ ما نحن فيه من الصلاة في المصلى. فالمسلمون اليوم قد تفرقوا في هذه الصلاة على جماعات كثيرة خلافا للسنة كما سبق فإذا أردنا جمعهم على جماعة واحدة فلا سبيل لنا إليها إلا بالخروج إلى أرض فسيحة تتسع لجميع المصلين نساءا ورجالا يتخذون لهم مصلى يؤدون فيه هذه العبادة العظيمة "صلاة العيد" وذلك ما أمرت به السنة فكيف يقال بعد ذلك: إن تطبيق السنة تفريقا للجماعة؟!
نعم. إن مما لا ريب فيه أن إحياء هذه السنة يقتضي إيجاد جماعة جديدة تدع تلك الجماعات الأخرى المتفرقة في المساجد الكثيرة ولكن لما كان غاية هذه الجماعة الجديدة جمع تلك الجماعات في جماعة واحدة كما كان الأمر عليه في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين كان لا بد من وجود هذه الجماعة لأن الجماعة الواحدة لا تقوم طفرة ولا تقوم إلا بهم.
ومن المتقرر في الأصول: أن ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب.
فهذا يؤكد الاعتراف بضرورة وجود هذه الجماعة لأنها على السنة وغايتها تحقيق الجماعة بأوسع معانيها بخلاف تلك الجماعات الأخرى.
وقد يقول قائل: قد يستجيب لهذه الجماعة كثير من المخلصين بعد أن تبينت لهم السنة ولكن من المفروض أنه سيبقى ناس كثيرون مصرين على التفرق في المساجد خلافا للسنة ولجميع المذاهب وبهذا لا تحقق الجماعة الواحدة المنشودة!
أقول: الحق أن هذا قد يحدث ولكن من الواضح حينئذ أن المسؤولية لا تقع على الذين أحيوا هذه السنة ودعوا الناس إليها وإنما على الذين أصروا على مخالفتها فالإنكار إنما ينصب عليهم.
وأما الطائفة الأولى فجماعتهم هي المشروعة لأنها على السنة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم في صفة الفرقة الناجية: وهي الجماعة وفي رواية: "هي ما أنا عليه وأصحابي"(23).
فلا يضرهم حينئذ مخالفة من خالفهم وان كانوا أكثر منهم سوادا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"(24).
فالمؤمن لا يستوحش من قلة السالكين على طريق الهدى ولا يضره كثرة المخالفين.
قال الإمام الشاطبي في " الاعتصام " 01 / 11 - 12": وهذه سنة الله في الخلق: أن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل لقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[سورة يوسف: الآية 103].وقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سورة سبأ: الآية 13] ، ولينجز الله ما وعد به نبيه صلى الله عليه وسلم من عود وصف الغربة إليه(25) فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا وتصير السنة بدعة والبدعة سنة فيقام على أهل السنة بالتريث والتعنيف(26) كما كان أولا يقام على أهل البدعة طمعا من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة فلا تجتمع الفرق كلها على كثرتها على مخالفة السنة عادة وسمعا بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمر الله غير أنهم لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء استدعاء إلى موافقتهم لا يزالون في جهاد ونزاع ومدافعة وقراع أناء الليل والنهار وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل ويثيبهم الثواب العظيم.
أسأل الله تعالى أن يثبتنا على السنة ويميتنا عليها.
وهذا آخر ما تيسر جمعه في هذه العجالة والحمد لله رب العالمين.
الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى-
الهوامش:
[1] - كان استاذنا المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني قد قدم لهذه الرسالة بكلام يتعلق بالرد علي رسالة "الاصابة" وما فيها من جهل وضلالات وافتراءات علي اتباع السنة. وعن صلاة التراويح وانها احدى عشر ركعة. وقد اقتصرنا علي الموضوع الخاص بصلاة العيدين في المصلي. "زهير.

2- هذا في طبعتها الأولى سنة 1373هـ بدمشق وكذلك أدركنا الوقت بهذه الطبعة فلم نستطع الاتصال مع أستاذنا المؤلف لعله يزيد عليها ولكن قدر الله وما شاء فعل ونرجو أن يستدرك ذلك لنعيد طبعها قريبا إن شاء الله.

3- قلت: عزوه للبخاري باللفظ الآتي خطأ وإنما هو لمسلم (3 / 20 - 21 – استانبول

4- هي رسالته "من تسديد الإصابة إلى من زعم نصرة الخلفاء الراشدين والصحابة".

5- انظر "زاد المعاد" "1 / 172" و "فتح الباري" "2 / 361" وسيأتي كلامه في ذلك قريبا. و "مختصر زاد المعاد" للشيخ محمد بن عبد الوهاب صفحة 44 تحقيق زهير الشاويش طبع المكتب الإسلامي

6- قال الحافظ: "هو موضع بالمدينة معروف بينه وبين باب المسجد ألف ذراع" وقال ابن القيم: "وهو المصلى الذي يوضع فيه محمل الحاج" قلت: ويبد وأنه كان إلى الجهة الشرقية من المسجد النبوي قريبا من مقبرة البقيع كما يستفاد من الحديث الثالث الآتي.

7- أي يخرج طائفة من الجيش إلى جهة من الجهات. "فتح" قلت: وفيه إشارة قوية إلى أن خطبة العيد ليست محصورة في الوعظ والإرشاد فقط بل انهما تشمل التذكير والتوجيه إلى كل ما فيه تحقيق مصالح الأمة

8- في "النهاية": "العنزة مثل نصف الرمح وأكبر شيئا وفيها سنان مثل سنان الرمح والعكازة قريب منها".

9- وهو بقيع الغرقد: وسمى لما كان فيه من أصول شوك العوسج وهو مقبرة المدينة. وفي المدينة أكثر من بقيع ولكن المشهور هو بقيع الغرقد. "زهير".

10- النسك: الطاعة والعبادة. "نهاية".

11- قال الحافظ: "التعريف بالمصلى بكونه عند دار كثير بن الصلت على سبيل التقريب للسامع وإلا فدار كثير بن الصلت محدثة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وظهر من هذا الحديث: أنهم جعلوا لمصلاه شيئا يعرف به وهو المراد بالعلم - وهو بفتحتين - الشيء الشاخص".

12- وأما الآن فلا لزوم للموعظة الخاصة بالنساء لأنهن شقائق الرجال والخطاب والموعظة واحدة للرجال والنساء وكذلك لوجود مكبرات الصوت المتعددة في كل مسجد وجامع. ويؤتى بها - عادة - في مصليات العيد. نعم ويطلب من الخطيب أن يراعي مصلحة النساء بأنواع هن أحوج إليها من الرجال في خطبته الجامعة. "زهير".

13- بل علل الأكثر بأن وضع مكة شرفها الله بين الجبال ولذلك لا يوجد فيها ساحة قريبة من المساكن اقرب من ساحة البيت الحرام. . . وهو وجه له قبول

14- بل علل الأكثر بأن وضع مكة شرفها الله بين الجبال ولذلك لا يوجد فيها ساحة قريبة من المساكن اقرب من ساحة البيت الحرام. . . وهو وجه له قبول وأما التعليل بالفضل فلا يقبل: لأن مسجده صلى الله عليه وآله وسلم له فضيلة صحيحة ومع ذلك لم يصل به إلا من عذر. "زهير"..

15- الأم "1 / 207" ويأتي نص كلامه "ص 33".

16- الجبانة: هي الصحراء أصلا ثم أطلقت على المقابر لأنها تكون فيها من باب تسمية الشيء بموضعه وكذلك الجبان. "زهير".

17- هو أستاذي العلامة الجليل المحدث المجتهد القاضي صاحب المؤلفات الكثيرة النافعة. ولد في القاهرة سنة 1309 وتوفي فيها سنة 1377. تغمده الله برحمته. وهو من أسرة علم وفضل ومروءة ودفاع عن السنة ومن هذه الأسرة والده العلامة الشيخ محمد شاكرك شيخ علماء الإسكندرية وأخوه العالم الجليل شيخ أدباء الإسلام في هذا العصر محمود محمد شاكر صاحب المؤلفات والتحقيقات المفيدة "زهير".

18- قلت: وفي هذا التصحيح نظر بين فإن مداره عند الحاكم على عيسى بن عبد الأعلى ابن أبى فروة أنه سمع أبا يحيى عبيد الله التيمي يحدث عن أبي هريرة به. وكذلك رواه أبو داود "1 / 180" وابن ماجه "1 / 394" والبيهقي "3 / 210". فهذا إسناد ضعيف مجهول. عيسى هذا مجهول كما قال الحافظ في " لتقريب " ومثله شيخه أبو يحيى وهو عبيد الله ابن عبد الله بن موهب فهو مجهول الحال وقال الذهبي في " مختصر سنن البيهقي " "1 / 160/. قلت: "عبيد الله ضعيف" وقال في ترجمة الراوي عنه من "الميزان": "لا يكاد يعرف وهذا حديث منكر".

قلت: فموافقته الحاكم على تصحيح الحديث في " تلخيص المستدرك " من أخطائه الكثيرة فيه التي نرجوا أن تغتفر ولهذا جزم الحافظ في " تلخيص الحبير " "ص 144" وفي "بلوغ المرام" "2 / 99" أن "إسناده ضعيف". فقول النووي في "المجموع" "5 / 5": "إسناده جيد" غير جيد وكأنه اعتمد على سكوت أبي داود عليه وهذا ليس بشيء فان أبا داود كثيرا ما يسكت على ما هو بين الضعف كما هو مذكور في "المصطلح" وبينته في كتابي "صحيح سنن أبي داود".

19- يبلغ درجة التواتر انظر "الإرواء" 953 و "صحيح الجامع" 3732. "زهير".

20- قلت رواه أحمد وغيره بسند صحيح وهو مخرج في " الصحيحة " برقم "2021".

21- قلت: يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أهل هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره" وفي رواية "فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي" مختصر صحيح مسلم رقم 1251 وغيره.

قلت: وظاهر الحديث وجوب ترك أخذ الشعر والظفر على من عزم على التضحية حتى يضحي فيحرم الأخذ المذكور وبه قال الإمام احمد وغيره فليتنبه لهذا أولئك المبتلون بحلق اللحية فإن حلقها للعيد فيه ثلاث معاصي: الأولى: الحلق نفسه فإنه تأنث وتشبه بالكفار وتغيير لخلق الله كما بينته في كتابي "آداب الزفاف في السنة المطهرة" "الطبعة السادسة ص: 118".

الثانية: التزين للعيد بمعصية الله!

الثالثة: ما أفاده هذا الحديث من تحريم أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي والحقيقة أن هذه المخالفات قل من ينجو منها حتى من بعض أهل العلم نسأل الله السلامة

22- التلقيس ضرب الدفوف واللعب عند قدوم الملوك على سبيل استقبالهم انتهى من الهامش.

قلت يشير إلى حديث رواه ابن ماجه "1 / 391" وغيره بإسنادين في أحدهما شريك وهو ابن عبد الله القاضي سيئ الحفظ وفي الآخر أبو اسحاق وهو السبيعي وكان اختلط وأعله الطحاوي في "مشكل الآثار " "2 / 209 - 210" من الوجهين. فراجعه إن شئت.

23- قلت: وإسنادها حسن لغيره رواه الترمذي وحسنه عن ابن عمرو والطبراني وغيره عن أنس وهو مخرج مع الرواية الأولى - وهي صحيحة - في "سلسة الأحاديث الصحيحة" رقم "204 "

24- حديث صحيح متواتر مخرج في المصدر المذكور وانظر "مختصر صحيح مسلم" رقم "1095" و "صحيح الجامع الصغير" رقم "7166".

25- يعني الإسلام يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء" رواه مسلم وغيره وهو مخرج في "الصحيحة"، "1273".

26- كما فعل مؤلفو "الإصابة" بنا فإنهم بعد أن اضطربوا في بيان رأيهم في "صلاة العيد في الصحراء" كما سبق قالوا: "والمسلمون لم يزل فيهم من يحافظون على الصلوات وعلى أوامر دينهم وصلاتهم فقامت هذه الشرذمة تنكر عليهم وتفرق جماعتهم".
فتأمل كيف جعلوا الدعوة إلى السنة تفريقا للجماعة وصدق من قال: رمتني بدائها وانسلت!

* * * * * * * * *

لتحميل الكتاب:

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نشأة علوم اللغة العربية

من رسوماتي القديمة ... لوحة العطر الفواح

أيها العيد .. أنفرح أم نحزن ؟؟